الزائر للمجمع السكني الضخم داخل المقر الرئيسي لشركة أرامكو السعودية بمدينة الظهران المعروف بـ«سينيور ستاف» حيث يقيم كبار موظفي الشركة وعائلاتهم، يسترعي انتباهه وجود مبنى في مواجهة قاعة طعام كبار الموظفين المعروف بـ«Dining Hall» وضعت عليه لافتة تقول (ستينكي هال «Steineke Hall»)، علما بأن هذا المبنى تستخدمه شركة أرامكو بيتاً للضيافة.
فمن هو ستينكي هذا الذي حاولت أرامكو تخليده بهذه الطريقة رغم أنه يستحق أكثر من ذلك بكثير لدوره الإيجابي والمشهود في تغيير أنماط الحياة في المملكة العربية السعودية من حياة البداوة والرعي والغوص بحثاً عن اللؤلؤ إلى حياة عصرية قوامها صناعة النفط والبتروكيماويات، وفي نقل اقتصادها من اقتصاد يعتمد على الحج والعمرة وزراعة التمور مصدراً رئيسياً للدخل القومي إلى اقتصاد يعتمد على تكرير وتصدير النفط ومشتقاته.
ماكس ستينكي هو أمريكي الجنسية، قضى أعوام حياته المبكرة في مزرعة عائلته بالقرب من بروكينغز في ولاية أوريغون، لكنه ترك عائلته ذات الأصول الألمانية وإخوته الثمانية وهو في سن الثانية عشرة ليتوجه الى مدينة كريسنت في ولاية كاليفورنيا حيث حصل على عمل في طاحونة للخشب، وفي الوقت نفسه التحق بالمدرسة ليواصل تعليمه الأولي.
في تلك المدرسة شجعه معلمه على استكمال دراسته الجامعية فالتحق عام 1917 بجامعة ستانفورد التي لم تكن تشترط وقتذاك اختبارات القبول. وهكذا تخرج من ستانفورد في العام 1921 حاملاً درجة البكالوريوس في علم الجيولوجيا، فاستثمر ما تعلمه في البحث عن النفط لمدة 13 سنة في كل من كاليفورنيا وألاسكا وكولومبيا، إضافة إلى كندا ونيوزيلندا، قبل أن يلتحق بالعمل في شركة «ستاندر اويل أوف كاليفورنيا» أو «سوكال SOCAL» التي تعرف اليوم باسم «شيفرون Chevron».
المنعطف الأبرز في حياته كان في عام 1934 حينما وصل إلى السعودية لأول مرة منتدباً من قبل «سوكال» التي كانت قد حصلت في 29 مايو 1933 على امتياز للتنقيب عن النفط في مساحة 930 ألف كيلومتر مربع من الأراضي السعودية لمدة 60 عاماً في مقابل ما مجموعه 50 ألفاً من الجنيهات الإسترلينية الذهبية، ومبلغ سنوي قدره 5000 جنيه إسترليني. والمعروف أن سوكال قامت في 8 نوفمبر 1933 بتأسيس شركة فرعية لهذا الغرض تحت اسم «كاليفورنيا آرابيان ستاندارد أويل» (كاسوك CASOC)، ثم قامت في عام 1936 بضم جهودها إلى جهود شركة «تكساس أويل كومباني» من خلال تأسيس شركة أخرى هي «كالتكس» للاستفادة من شبكة التسويق الضخمة التي كانت الأخيرة تملكها في آسيا وأفريقيا.
وصوله إلى السعودية
حينما وصل ستينكي إلى السعودية للمرة الأولى في عام 1934 كان قد سبقه إليها فريق صغير مكون من الجيولوجيين الستة: ميلر، هنري، هوفر، كوتش، براون، وبورتشفيلد، الذين وصلوا في عام 1933 إلى بلدة الجبيل الساحلية، ثم انتقلوا منها إلى ما عُرف جيولوجياً باسم «قبة الدمام»، وهو مكان يبعد عن ميناء الدمام بنحو ثمانية كيلومترات وكان الأهالي يسمونه «جبل الظهران» أو «الجبل». في ذلك الموقع قام هذا الفريق الأمريكي الصغير، في ظل حراسة بعض الجنود والأدلاء البدو من أمثال عبدالهادي بن جثينا، ومحمد علي القطري، ومحمد بن خرسان القحطاني، ومقتفي الأثر الأشهر خميس بن رمثان العجمي، بسلسلة من الاختبارات الأولية للعثور على مكامن النفط الذي كان قد تدفق في جزيرة البحرين القريبة قبل نحو عام من ذلك التاريخ. كما قامت الشركة صاحبة الامتياز في ربيع عام 1934 بإرسال طائرة من نوع «فيرتشايلد 71» إلى المنطقة تحت قيادة أحد جيولوجييها لوضع خرائط جوية لمناطق الامتياز والتنقيب، فكانت تلك هي المرة الأولى التي تهبط فيها طائرة فوق الأراضي السعودية.
اليأس يتسلل
وفي ضوء الخرائط التي تم وضعها لمناطق الامتياز خلال أشهر من التحليق اليومي والعمل المتواصل، وبعد وصول آلات ومهندسي الحفر من البحرين بحراً بواسطة المراكب عبر فرضة الخبر، قرر الجيولوجيون في 30 إبريل 1935 بدء عمليات الحفر في حقل الدمام رقم 1 إلى الغرب من جبل الظهران وسط ظروف مناخية وطبيعية ومعيشية غاية في الصعوبة. وبحلول شهر ديسمبر من ذلك العام كان الحفر قد وصل إلى عمق موازٍ للعمق الذي تدفق منه النفط في البحرين، لكن دون العثور على دلائل تفيد بوجود النفط أو الغاز، الأمر الذي تقرر معه إيقاف أعمال الحفر عند عمق 976 متراً. بعد ذلك توجه الجيولوجيون في فبراير 1936 للحفر في حقل الدمام رقم 2، وتكرر الفشل، وكذا كان الحال مع حقل الدمام الثالث والرابع والخامس.
وفي خريف 1936 تم تعيين ستينكي كبيراً للجيولوجيين في «كاسوك» (احتفظ بهذا المنصب حتى عام 1946 أي إلى ما بعد تغيير اسم «سوكال» إلى «أرامكو»)، وبهذه الصفة جاء مرة أخرى إلى السعودية في ديسمبر 1936 برفقة مجموعة صغيرة أخرى من الجيولوجيين الأمريكيين في رحلة أطول للتعرف على جيولوجية الأرض السعودية ومعاينة سلسلة آبار الاختبار التي كان قد تم حفرها في «قبة الدمام» خلال عام 1936 ولم تعط نتائج إيجابية لجهة وجود النفط بكميات تجارية. وقتها كان زملاؤه الجيولوجيون على وشك بدء الحفر في حقل الدمام رقم 6 فدعاهم لصرف النظر عن ذلك، والتوجه للحفر في الموقع الذي بات يُعرف بحقل الدمام رقم 7، لكن النتائج كانت مخيبة للآمال مرة أخرى، الأمر الذي كاد معه صبر الشركة صاحبة الامتياز ينفد، خصوصاً بعدما تكبدت خسائر كبيرة بملايين الدولارات دون فائدة تذكر.
المحاولة الأخيرة
ولهذا السبب استدعته شركة كاسوك إلى مقرها الرئيسي في سان فرانسيسكو في أوائل عام 1938، حيث نجح ستينكي في إقناع رؤسائه بفكرة مواصلة الحفر في الحقل رقم 7 إلى أعماق أطول بكثير من المعتاد، وصرف النظر عن فكرة الانسحاب نهائياً. وكما هو معروف في أدبيات النفط السعودية فإن النفط تدفق بكميات تجارية من حقل الدمام رقم 7 في الأسبوع الأول من مارس 1938 بعد أن تم الحفر على عمق 1440 متراً. وفي نهاية مارس من العام نفسه وصل إنتاج الحقل المذكور إلى ثلاثة آلاف برميل يومياً ليرتفع بحلول عام 1940 إلى 12 ألف برميل في اليوم (بعد 45 سنة من استغلاله وبعد أن أنتج نحو 32 مليون برميل من النفط، تم إغلاق هذا الحقل التاريخي في عام 1982)، وسرعان ما وجد ستينكي دلائل على وجود النفط في مكان يبعد عن حقل الدمام بمسافة 50 كيلومتراً، فأمر بإجراء عملية الحفر في ما يعرف اليوم بحقل بقيق الذي يختزن احتياطياً ضخماً من النفط يقترب من 12 مليار برميل.
الجيولوجي الصلب يكشف الستار عن حقل «غوار»
تحقق ما كان الأمريكيون والسعوديون ينتظرونه، ومعه تشجعت حكومة المغفور له الملك المؤسس عبدالعزيز طيب الله ثراه، فوقعت ملحقاً لاتفاقية الامتياز الممنوحة لشركة «سوكال» تضمن توسعة المساحة المشمولة بالامتياز من 930 ألف كيلومتر مربع إلى 1.14 مليون كيلومتر مربع في مقابل حصول الحكومة السعودية على 140 ألفاً من الجنيهات الذهبية، وحصولها سنويا على 25 ألف جنيه إسترليني كبدل إيجار، إضافة إلى 100 ألف جنيه إسترليني في كل مرة يتم اكتشاف حقل نفطي جديد. ومع نجاحات «سوكال» في اكتشاف النفط في السعودية بفضل جهود ستينكي ورفاقه ارتفعت أسهم الشركة في الولايات المتحدة، وسارعت كبريات شركات النفط الأمريكية إلى شراء حصص فيها. فمثلاً قامت شركة «تيكساكو Texaco» بشراء 50% من أسهم «كوساك» الفرعية قبل تغيير اسمها إلى أرامكو في عام 1944. وفي عام 1948 تملكت شركة «ستاندارد أويل أوف نيوجيرسي» وشركة «سوكوني فاكيوم» الأمريكيتان اللتان تعرفان اليوم باسم «ايكسون موبيلExxonMobil» حصصاً في أرامكو التي تملكتها الحكومة السعودية بالكامل في عام 1980.
استمر ستينكي في العمل كبيراً للجيولوجيين لدى أرامكو بالمملكة، والتحقت به زوجته فلورانس وابنتاه. وخلال فترة الحرب العالمية الثانية، بذل أقصى جهد لحماية آبار النفط السعودية من أي هجوم قد تتعرض له من قبل دول المحور. وبحلول عام 1950 كانت صحته قد بدأت بالتدهور، الأمر الذي اضطر معه للعودة إلى بلاده حيث توفي في مدينة لوس إلتوس بولاية كاليفورنيا في أبريل 1952 عن عمر ناهز الرابعة والخمسين، مخلفاً وراءه ابنتيه «ماكسين» و«ماريان»، علماً بأن ماكسين ستينكي غود اقتفت -إلى حد ما- أثر والدها فحصلت على درجة الماجستير في الفيزياء من جامعة ستانفورد العريقة وتزوجت في عام 1952 من الفيزيائي وولتر غود من مختبرات لوس ألاموس العلمية.
كسب الرهان .. وأسر عقول وقلوب زملائه
الذين كتبوا عن ستينكي مستعيدين ذكرياتهم القديمة معه في السعودية أجمعوا على أنه كان شخصية استثنائية لجهة العمل دون كلل أو ملل ولجهة بناء علاقات الثقة والاحترام مع مرؤوسيه من العرب والأمريكيين إلى حد أنهم وصفوه بالرجل الذي كسب قلوب وعقول كل من عمل معه. وفي هذا السياق تطرق «وليام تريسي» في مجلة عالم أرامكو السعودية (عدد شهر مايو/يونيو 1984) إلى ما قاله توماس بارقر، أحد أشهر رؤساء أرامكو الأمريكيين، من أن الجميع كان يقدر ستينكي من صميم قلبه وكان مستعداً للبذل من أجله، كما نقل عن عبدالعزيز شلفان (أحد أقدم موظفي أرامكو السعوديين) قوله إن ستينكي كان أجمل من لامس شغاف قلبه، هذا ناهيك عما قاله الروائي والمؤرخ الأمريكي واليس ستيغنير عنه من أنه كان مهنياً واضحاً ومتحمساً لا يكل من العمل، ولا تشغله التفاصيل الصغيرة أو التعلق العنيد بالنظريات، لكنه لا يتسامح مع الذين لا يبذلون جهداً مقنعاً في تقصي ما يُطلب منهم من حقائق.
ويخبرنا بارقر في الصفحة 286 من كتابه آنف الذكر أن ستينكي ارتبط بعلاقة خاصة بالدليل خميس بن رمثان العجمي، الذي ظل يعمل لدى أرامكو من عام 1942 وحتى 1959، كونهما كثيراً ما سافرا معاً في مجاهل الصحراء السعودية، ويضيف أن الأخير جعل ستينكي ذات مرة عاجزاً عن الكلام، وذلك حينما أخبره أن البدو في وادي الدواسر غيروا اسم جبل قصير غليظ في منطقتهم من «أم رقيبة» إلى «صبع ستينكي»، بعدما شاهدوا إصبعه القصير الذي كان قد بتر بعد إصابته بالتهاب. يقول بارقر: إن ستينكي رأي في هذا التكريم رديفاً بدوياً لجائزة سيدني باورز التي سبق الإشارة إليها.
ويمكن القول إن جهود ستينكي في اكتشاف النفط من الأرض السعودية هي التي مهدت للعلاقات التاريخية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية والتي لم تبدأ سياسية كغيرها من العلاقات الثنائية، وإنما بدأت اقتصادية من خلال منح امتيازات التنقيب عن النفط في شرق المملكة في عام 1933 لشركة أمريكية، لتتوالى بعد ذلك الاتفاقيات في مختلف المجالات والزيارات السياسية المتبادلة على أرفع المستويات ابتداء من الاجتماع التاريخي بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 14 فبراير 1945 على ظهر المدمرة الأمريكية «كوينسي» في البحيرات المرة.
قراءة: د. عبدالله المدني
أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين
فمن هو ستينكي هذا الذي حاولت أرامكو تخليده بهذه الطريقة رغم أنه يستحق أكثر من ذلك بكثير لدوره الإيجابي والمشهود في تغيير أنماط الحياة في المملكة العربية السعودية من حياة البداوة والرعي والغوص بحثاً عن اللؤلؤ إلى حياة عصرية قوامها صناعة النفط والبتروكيماويات، وفي نقل اقتصادها من اقتصاد يعتمد على الحج والعمرة وزراعة التمور مصدراً رئيسياً للدخل القومي إلى اقتصاد يعتمد على تكرير وتصدير النفط ومشتقاته.
ماكس ستينكي هو أمريكي الجنسية، قضى أعوام حياته المبكرة في مزرعة عائلته بالقرب من بروكينغز في ولاية أوريغون، لكنه ترك عائلته ذات الأصول الألمانية وإخوته الثمانية وهو في سن الثانية عشرة ليتوجه الى مدينة كريسنت في ولاية كاليفورنيا حيث حصل على عمل في طاحونة للخشب، وفي الوقت نفسه التحق بالمدرسة ليواصل تعليمه الأولي.
في تلك المدرسة شجعه معلمه على استكمال دراسته الجامعية فالتحق عام 1917 بجامعة ستانفورد التي لم تكن تشترط وقتذاك اختبارات القبول. وهكذا تخرج من ستانفورد في العام 1921 حاملاً درجة البكالوريوس في علم الجيولوجيا، فاستثمر ما تعلمه في البحث عن النفط لمدة 13 سنة في كل من كاليفورنيا وألاسكا وكولومبيا، إضافة إلى كندا ونيوزيلندا، قبل أن يلتحق بالعمل في شركة «ستاندر اويل أوف كاليفورنيا» أو «سوكال SOCAL» التي تعرف اليوم باسم «شيفرون Chevron».
المنعطف الأبرز في حياته كان في عام 1934 حينما وصل إلى السعودية لأول مرة منتدباً من قبل «سوكال» التي كانت قد حصلت في 29 مايو 1933 على امتياز للتنقيب عن النفط في مساحة 930 ألف كيلومتر مربع من الأراضي السعودية لمدة 60 عاماً في مقابل ما مجموعه 50 ألفاً من الجنيهات الإسترلينية الذهبية، ومبلغ سنوي قدره 5000 جنيه إسترليني. والمعروف أن سوكال قامت في 8 نوفمبر 1933 بتأسيس شركة فرعية لهذا الغرض تحت اسم «كاليفورنيا آرابيان ستاندارد أويل» (كاسوك CASOC)، ثم قامت في عام 1936 بضم جهودها إلى جهود شركة «تكساس أويل كومباني» من خلال تأسيس شركة أخرى هي «كالتكس» للاستفادة من شبكة التسويق الضخمة التي كانت الأخيرة تملكها في آسيا وأفريقيا.
وصوله إلى السعودية
حينما وصل ستينكي إلى السعودية للمرة الأولى في عام 1934 كان قد سبقه إليها فريق صغير مكون من الجيولوجيين الستة: ميلر، هنري، هوفر، كوتش، براون، وبورتشفيلد، الذين وصلوا في عام 1933 إلى بلدة الجبيل الساحلية، ثم انتقلوا منها إلى ما عُرف جيولوجياً باسم «قبة الدمام»، وهو مكان يبعد عن ميناء الدمام بنحو ثمانية كيلومترات وكان الأهالي يسمونه «جبل الظهران» أو «الجبل». في ذلك الموقع قام هذا الفريق الأمريكي الصغير، في ظل حراسة بعض الجنود والأدلاء البدو من أمثال عبدالهادي بن جثينا، ومحمد علي القطري، ومحمد بن خرسان القحطاني، ومقتفي الأثر الأشهر خميس بن رمثان العجمي، بسلسلة من الاختبارات الأولية للعثور على مكامن النفط الذي كان قد تدفق في جزيرة البحرين القريبة قبل نحو عام من ذلك التاريخ. كما قامت الشركة صاحبة الامتياز في ربيع عام 1934 بإرسال طائرة من نوع «فيرتشايلد 71» إلى المنطقة تحت قيادة أحد جيولوجييها لوضع خرائط جوية لمناطق الامتياز والتنقيب، فكانت تلك هي المرة الأولى التي تهبط فيها طائرة فوق الأراضي السعودية.
اليأس يتسلل
وفي ضوء الخرائط التي تم وضعها لمناطق الامتياز خلال أشهر من التحليق اليومي والعمل المتواصل، وبعد وصول آلات ومهندسي الحفر من البحرين بحراً بواسطة المراكب عبر فرضة الخبر، قرر الجيولوجيون في 30 إبريل 1935 بدء عمليات الحفر في حقل الدمام رقم 1 إلى الغرب من جبل الظهران وسط ظروف مناخية وطبيعية ومعيشية غاية في الصعوبة. وبحلول شهر ديسمبر من ذلك العام كان الحفر قد وصل إلى عمق موازٍ للعمق الذي تدفق منه النفط في البحرين، لكن دون العثور على دلائل تفيد بوجود النفط أو الغاز، الأمر الذي تقرر معه إيقاف أعمال الحفر عند عمق 976 متراً. بعد ذلك توجه الجيولوجيون في فبراير 1936 للحفر في حقل الدمام رقم 2، وتكرر الفشل، وكذا كان الحال مع حقل الدمام الثالث والرابع والخامس.
وفي خريف 1936 تم تعيين ستينكي كبيراً للجيولوجيين في «كاسوك» (احتفظ بهذا المنصب حتى عام 1946 أي إلى ما بعد تغيير اسم «سوكال» إلى «أرامكو»)، وبهذه الصفة جاء مرة أخرى إلى السعودية في ديسمبر 1936 برفقة مجموعة صغيرة أخرى من الجيولوجيين الأمريكيين في رحلة أطول للتعرف على جيولوجية الأرض السعودية ومعاينة سلسلة آبار الاختبار التي كان قد تم حفرها في «قبة الدمام» خلال عام 1936 ولم تعط نتائج إيجابية لجهة وجود النفط بكميات تجارية. وقتها كان زملاؤه الجيولوجيون على وشك بدء الحفر في حقل الدمام رقم 6 فدعاهم لصرف النظر عن ذلك، والتوجه للحفر في الموقع الذي بات يُعرف بحقل الدمام رقم 7، لكن النتائج كانت مخيبة للآمال مرة أخرى، الأمر الذي كاد معه صبر الشركة صاحبة الامتياز ينفد، خصوصاً بعدما تكبدت خسائر كبيرة بملايين الدولارات دون فائدة تذكر.
المحاولة الأخيرة
ولهذا السبب استدعته شركة كاسوك إلى مقرها الرئيسي في سان فرانسيسكو في أوائل عام 1938، حيث نجح ستينكي في إقناع رؤسائه بفكرة مواصلة الحفر في الحقل رقم 7 إلى أعماق أطول بكثير من المعتاد، وصرف النظر عن فكرة الانسحاب نهائياً. وكما هو معروف في أدبيات النفط السعودية فإن النفط تدفق بكميات تجارية من حقل الدمام رقم 7 في الأسبوع الأول من مارس 1938 بعد أن تم الحفر على عمق 1440 متراً. وفي نهاية مارس من العام نفسه وصل إنتاج الحقل المذكور إلى ثلاثة آلاف برميل يومياً ليرتفع بحلول عام 1940 إلى 12 ألف برميل في اليوم (بعد 45 سنة من استغلاله وبعد أن أنتج نحو 32 مليون برميل من النفط، تم إغلاق هذا الحقل التاريخي في عام 1982)، وسرعان ما وجد ستينكي دلائل على وجود النفط في مكان يبعد عن حقل الدمام بمسافة 50 كيلومتراً، فأمر بإجراء عملية الحفر في ما يعرف اليوم بحقل بقيق الذي يختزن احتياطياً ضخماً من النفط يقترب من 12 مليار برميل.
الجيولوجي الصلب يكشف الستار عن حقل «غوار»
تحقق ما كان الأمريكيون والسعوديون ينتظرونه، ومعه تشجعت حكومة المغفور له الملك المؤسس عبدالعزيز طيب الله ثراه، فوقعت ملحقاً لاتفاقية الامتياز الممنوحة لشركة «سوكال» تضمن توسعة المساحة المشمولة بالامتياز من 930 ألف كيلومتر مربع إلى 1.14 مليون كيلومتر مربع في مقابل حصول الحكومة السعودية على 140 ألفاً من الجنيهات الذهبية، وحصولها سنويا على 25 ألف جنيه إسترليني كبدل إيجار، إضافة إلى 100 ألف جنيه إسترليني في كل مرة يتم اكتشاف حقل نفطي جديد. ومع نجاحات «سوكال» في اكتشاف النفط في السعودية بفضل جهود ستينكي ورفاقه ارتفعت أسهم الشركة في الولايات المتحدة، وسارعت كبريات شركات النفط الأمريكية إلى شراء حصص فيها. فمثلاً قامت شركة «تيكساكو Texaco» بشراء 50% من أسهم «كوساك» الفرعية قبل تغيير اسمها إلى أرامكو في عام 1944. وفي عام 1948 تملكت شركة «ستاندارد أويل أوف نيوجيرسي» وشركة «سوكوني فاكيوم» الأمريكيتان اللتان تعرفان اليوم باسم «ايكسون موبيلExxonMobil» حصصاً في أرامكو التي تملكتها الحكومة السعودية بالكامل في عام 1980.
استمر ستينكي في العمل كبيراً للجيولوجيين لدى أرامكو بالمملكة، والتحقت به زوجته فلورانس وابنتاه. وخلال فترة الحرب العالمية الثانية، بذل أقصى جهد لحماية آبار النفط السعودية من أي هجوم قد تتعرض له من قبل دول المحور. وبحلول عام 1950 كانت صحته قد بدأت بالتدهور، الأمر الذي اضطر معه للعودة إلى بلاده حيث توفي في مدينة لوس إلتوس بولاية كاليفورنيا في أبريل 1952 عن عمر ناهز الرابعة والخمسين، مخلفاً وراءه ابنتيه «ماكسين» و«ماريان»، علماً بأن ماكسين ستينكي غود اقتفت -إلى حد ما- أثر والدها فحصلت على درجة الماجستير في الفيزياء من جامعة ستانفورد العريقة وتزوجت في عام 1952 من الفيزيائي وولتر غود من مختبرات لوس ألاموس العلمية.
كسب الرهان .. وأسر عقول وقلوب زملائه
الذين كتبوا عن ستينكي مستعيدين ذكرياتهم القديمة معه في السعودية أجمعوا على أنه كان شخصية استثنائية لجهة العمل دون كلل أو ملل ولجهة بناء علاقات الثقة والاحترام مع مرؤوسيه من العرب والأمريكيين إلى حد أنهم وصفوه بالرجل الذي كسب قلوب وعقول كل من عمل معه. وفي هذا السياق تطرق «وليام تريسي» في مجلة عالم أرامكو السعودية (عدد شهر مايو/يونيو 1984) إلى ما قاله توماس بارقر، أحد أشهر رؤساء أرامكو الأمريكيين، من أن الجميع كان يقدر ستينكي من صميم قلبه وكان مستعداً للبذل من أجله، كما نقل عن عبدالعزيز شلفان (أحد أقدم موظفي أرامكو السعوديين) قوله إن ستينكي كان أجمل من لامس شغاف قلبه، هذا ناهيك عما قاله الروائي والمؤرخ الأمريكي واليس ستيغنير عنه من أنه كان مهنياً واضحاً ومتحمساً لا يكل من العمل، ولا تشغله التفاصيل الصغيرة أو التعلق العنيد بالنظريات، لكنه لا يتسامح مع الذين لا يبذلون جهداً مقنعاً في تقصي ما يُطلب منهم من حقائق.
ويخبرنا بارقر في الصفحة 286 من كتابه آنف الذكر أن ستينكي ارتبط بعلاقة خاصة بالدليل خميس بن رمثان العجمي، الذي ظل يعمل لدى أرامكو من عام 1942 وحتى 1959، كونهما كثيراً ما سافرا معاً في مجاهل الصحراء السعودية، ويضيف أن الأخير جعل ستينكي ذات مرة عاجزاً عن الكلام، وذلك حينما أخبره أن البدو في وادي الدواسر غيروا اسم جبل قصير غليظ في منطقتهم من «أم رقيبة» إلى «صبع ستينكي»، بعدما شاهدوا إصبعه القصير الذي كان قد بتر بعد إصابته بالتهاب. يقول بارقر: إن ستينكي رأي في هذا التكريم رديفاً بدوياً لجائزة سيدني باورز التي سبق الإشارة إليها.
ويمكن القول إن جهود ستينكي في اكتشاف النفط من الأرض السعودية هي التي مهدت للعلاقات التاريخية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية والتي لم تبدأ سياسية كغيرها من العلاقات الثنائية، وإنما بدأت اقتصادية من خلال منح امتيازات التنقيب عن النفط في شرق المملكة في عام 1933 لشركة أمريكية، لتتوالى بعد ذلك الاتفاقيات في مختلف المجالات والزيارات السياسية المتبادلة على أرفع المستويات ابتداء من الاجتماع التاريخي بين الملك عبدالعزيز آل سعود والرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت في 14 فبراير 1945 على ظهر المدمرة الأمريكية «كوينسي» في البحيرات المرة.
قراءة: د. عبدالله المدني
أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين